أحجية القوى بين الغرب والشرق

 وأنا أقرأ إحدى دراسات النقد الثقافي وجدت العبارة التالية منقولة عن لسان د. غسان سلامة: 

"في اليوم الذي يضطر فيه الغرب لترجمة دراساتنا الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية ... باعتبارها أفضل المراجع المتوفرة عنا، نكون قد بدأنا دق المسامير الأولى في نعش الاستشراق" (عصب الاستشراق - 1981)

وعلى إثر قراءتها دارت في ذهني بعض التساؤلات:

1. هل هناك اتساق حقيقي بين واقعنا الثقافي وبين تصوُّرنا عن شخصيتنا الثقافية وما نعرفه عن أنفسنا أم أننا فقط نتخيل أننا نبدو بشكل ومقام ونحن أبعد ما نكون عنهما؟ صحيح أنه كتب هذه العبارة منذ مايقرب من ثلاثين عامًا، لكن التساؤل ما يزال قائما: هل نعرف بالفعل قدر أنفسنا؟ هل نمارس الفكر النقدي حول ما يُقدَّم لنا أو نعرفه عن تاريخنا؟ إنني أظن أن تحويل القضايا الفكرية والثقافية الخطيرة إلى مُزحَة في كل المناسبات تقريبا والتخلي عن البحث في أعماقها تحت مزاعم مسميات مُستَهلَكة كـ"نظرية المؤامرة" مثلا هو من أهم أسباب عدم التحري والبحث خلف كل ما يُثار عن الحضارة المصرية، ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

2. هل يحتاج الغرب فعلا لنوع الإسهامات المعرفية التي يمكن أن نقدمها؟ أو دعوني أكتب صياغته بطريقة أخرى: ما هي الإسهامات العلمية والمعرفية التي قد نبعت بالفعل من "أنفسنا المعاصرة" فقط فيمكننا بذلك وصفها بأنها شرقية أصيلة ومائزة لنا جدا؟ لا أُنكِرُ التميز في صناعة الحرف التقليدية وحفظ التراث الشعبي في بعض الأحيان، لكنها لم تتخط بعد مجرد كونها حركات صغيرة لا ترقى للتأثير العالمي القوي الذي يثير فعلا رغبة في نفوس الغرب لاكتساب ثقافتنا وتعلم لغتنا.

3.هل من المنطقي توقُّع أن يرانا الغرب يوما ندّا له - آخذين في الاعتبار طفرة التطور التكنولوجي الفائقة التي تتكشف إلينا بالتدريج ومن فرط تقدمها لا نكد نصدق أن ما نراه حقيقيا؟ أشير بذلك إلى "إكس-روبوت" الذي نشرت عنه بوست من فترة قصيرة أيضا على سبيل المثال لا الحصر.

لست أقول أننا أقل من الغرب وأن الأمر محتوم علينا، ولكنني ألفت النظر إلى حقيقة أننا والغرب مختلفون تماما من حيث الوجهة الحضارية ولغة الحوار؛ إننا نسير تقريبا في خطوط حضارية وثقافية مستقيمة ومتوازية إن حدث والتقت (أو تطابقت) فإنهوية أهدم سوف تُمحَى وتذوب في الآخر، ونعم، أتفق معك تماما في الإجابة التي قفزت إلى ذهنك الآن.

لوحة "لاعبو الشطرنج" (1830) للفنان الألماني موريتز ريتزش(1)

ولكي أختم تدوينتي هذه بكلمات واقعية وإيجابية أيضا فإنني أرى أن قوة الشرق - إذا قرر يوما ما أن يكون قوة "تناطح" قوة الغرب - تكمن في تنمية مهارات الانتقائية الاستهلاكية والتحكم في الذات لديه، وهو ما ثبتت فاعليته حينما قررت بعض الشعوب العربية مقاطعة السلع الغربية مؤخرا لأن أرباحها توجّه للدعم والتسليح العسكري ضد دولة فلسطين، فلماذا لا يحذو الشعب العربي الحذو ذاته صوب كل ما هو غربي؟ لا أطلب المقاطعة، ولكن أقترح التفكير النقدي المتزن فربما لو حدث هذا تنقلب الموازين انقلابا نسبيا وطفيفًا لصالح الشرق ويتأكد الغرب في الآن ذاته أن الشرق مستهلِك عاقل ومفكر وقادر على صناعة قرارات مختلفة عما يتم توجيهه إليه بشكل مباشر أو غير مباشر.

يومكم سعيد،

آية

الثلاثاء 23 يوليو 2024

--

Die Schachspieler (The Chess Players), Moritz Retzsch (1779-1857)

Comments