إعادة النظر في ثوابت الدراسات الاستشراقية عن الفنون الإسلامية في جماليات المنمنمة الإسلامية لـ"أمل نصر"
إعادة النظر
في ثوابت الدراسات الاستشراقية عن الفنون الإسلامية في جماليات المنمنمة
الإسلامية لـ"أمل نصر"
بقلم د. آية مؤنس حلمي
يعيد كتاب الناقدة والأكاديمية التشكيلية المصرية
الدكتورة أمل نصر النظر في ما رسّخته غالبية الدراسات الاستشراقية من مفاهيم حول
طبيعة الفنون الإسلامية وعن الفلسفة التي تشربت بها فأصبحت معادلا رمزيا وبصريا
لها على مدى قرون طويلة. تعيد "أمل نصر" تشكيل تلك الرؤية بطريقة
التفنيد النقدي التحليلي الدقيق لما سبق تداوله من مزاعم حول الفنون الإسلامية، ثم
تعيد الفنون الإسلامية إلى سياقها الثقافي وبيئتها الفلسفية لتُمكن القارئ العربي من رؤية - بل واكتشاف - جماليات
أحد أشهر الفنون الإسلامية التي غلفها الغموض وأساءت إليها التفاسير غير الدقيقة
فسلبتها جزء كبير من سحرها الأخاذ وطابعها الماورائي المليء بالدلالات الخفية
والرموز المتوارية خلف ظلال التكوين والحرف والألوان.
صدر هذا الكتاب تحت عنوان "جماليات المنمنمة
الإسلامية" عن دائرة الثقافة الإعلام في إمارة الشارقة في الإمارات العربية
المتحدة ضمن الاحتفال بفوز الشارقة بلقب
"عاصمة الثقافة الإسلامية" عام 2014. ويتعرض هذا الكتاب المُركَّز - الذي
يقع في 64 صفحة بخلاف ملحق الصور الملون - بنظرة فاحصة إلى فن المنمنمة الإسلامية
ويكشف معاييرها الفلسفية والجمالية الحقيقية المستقاة من التراث الإسلامي التي
خرجت منه ويقابلها بالمعايير الاستشراقية ويفندها في سبع دراسات (فصول) قصيرة
وموجزة دقيقة ومكثفة واضحة المقصد والوجهة – كالمنمنمة التي أفرد الكتاب لتحليل
جوانبها الفنية؛ وكأن بنية الكتاب جاءت في شكلها التخطيطي موازية لجماليات
المنمنمة الإسلامية الحافلة بالتفاصيل الدقيقة المباشرة والمختصرة لكنها في دقتها
وإيجازها كثيفة المغزى ومحملة بالكثير من الدلالات.
وبعض هذه الدراسات مقالية قصيرة وصغيرة وبعضها طويل
نسبيا، لكنها إجمالا مكثفة المادة وواضحة الهدف تماما بغير إسراف أو إسهاب قد يشتت
عملية القراءة أو يثقل على القارئ بما لا يتوقعه، كما أن اللغة التي تحمل مادة
الكتاب تأتي قوية رصينة واضحة ودقيقة تخلو من التكلف اللفظي والتعقيد الدلالي
لتنقل مادة الكتاب إلى القارئ العربي بسلاسة ووعي. تتناول كل دراسة من الدراسات
السبع جانبا مفاهيميا أو فلسفيا أو جماليا تشكيليا أودلاليا، يتضح في عناوين
الفصول كما سنتناولها بإيجاز في السطور التالية، وهي: مفاهيم خاطئة في تقييم
الفنون الإسلامية، مفهوم المحاكاة في الفنون الإسلامية، فن المنمنمات الإسلامية
بين الدنيوي والديني، جماليات المكان في المنمنمة الإسلامية، القيمة الجمالية
التعبيرية للزخرفة في المنمنمات الإسلامية، جماليات التكوين في المنمنمة
الإسلامية، والعلاقة الجمالية بين الكلمة والصورة في المنمنمة الإسلامية؛ نستعرض
كل منها فيما يلي:
أولا: مفاهيم
خاطئة في تقييم الفنون الإسلامية
تعرضت الناقدة في هذا الفصل للمفاهيم الخاطئة التي أحاطت
بالفنون الإسلامية عموما وبالمنمنمة بصفة خاصة لفترات زمنية طويلة كادت بسبب ذلك
ترسخ في الأذهان العربية قبل الأجنبية، وتُرجع "نصر" السبب في هذه
الرؤية التعسفية الجامدة التي سادت عالميا في التعامل مع الفنون الإسلامية بالوصف
والتحليل إلى الهيمنة الثقافية الغربية التي تصنع قوالبا تتماشى مع أهدافها
الاستعمارية وتصب فيها محتوى الثقافات الإسلامية فتفقدها هيئتها وتفرغها من
محتواها الروحي والفلسفي وتركز على جانبها المادي – هذا الجانب الذي ينال دائما
قدرا كبيرا من الاهتمام والتقديس أحيانا في السياق الثقافي الغربي.
تقول الدكتورة أمل نصر إن الاتجاه الغالب في الدراسات
الاستشراقية يهدف إلى طمس دور الشرق في تشكيل الوعي الأوروبي، وجاءت الصياغة
الأيديولوچية التعسفية تلك تؤدي دور العامل المساعد والمكمل للاستراتيچية الغربية
في إعادة صياغة الصورة التي تصدرها للعالم عن الفنون والثقافة الإسلامية، وتوضح
نصر للقارئ العربي أن هذا المسخ المفاهيمي قد وقع لأن الغرب استخدم معاييره الأوروبية
لتقييم الفنون الإسلامية وهو ما انتهى بنا إلى رؤية غير مكتملة الزوايا وبالتالي
بعيدة عن الواقع وغير منصفة تماما.
تؤكد المؤلفة أيضا على أن الغرب ينظر للفنون الإسلامية
بعيون غربية ويتجاهل طبيعة البيئة الثقافية والفكرية التي أفرزت هذا الفن المختلف
بالنسبة لهم، وربما كان هذا التجاهل سببا للسقوط في فخ سوء التقدير، وهو
تجاهل يصعب أن تنتفي عنه صفة القصدية لأن التراث الفلسفي والنظري الغربي حافل
بالنظريات والدراسات والمؤلفات التي تؤكد على الدور الحيوي الذي يلعبه السياق
الثقافي الذي نشأت فيه الأعمال الفنية والإبداعية في فهم وتفسير طبيعة هذه الأعمال
ومغزاها، لذا فإنه من القصور أن نأخذ بهذه الآراء ونسلم بها تسليما أعمى دون العودة
إلى أصول تلك الفنون ودراسة جذورها الفلسفية التي أثرت فيها.
وفي السياق ذاته تشرح "نصر" أن المنهج الغربي
المتبع في دراسة الفنون الإسلامية منهج "وصفي أسلوبي" يرتب الفنون
الإسلامية على أساس جغرافي، "فنجد فنا مصريا، وفنا سوريا، وفنا فارسيا، وآخر
تركيا؛ كأنما الفن الإسلامي ليس أكثر من الحصيلة المادية لهذه الفنون دون خط جمالي
ناظم وموحد لها"، وإن كان هذا
التقسيم الجغرافي قائم فعلا على أساس نقدي يرمي للإفادة البعيدة من ما هو وراء هذه
الاختلافات الجغرافية فمن الأمور التي تثير الدهشة والعجب أن يتم تقسيم الأعمال الفنية
الإبداعية الإسلامية بهذه الطريقة الجغرافية ولا يتم الالتفات نهائيا إلى طبيعة
البيئة الثقافية في كل بقعة على حدة.
تشير الناقدة كذلك إلى بعض العبارات الشائعة في الدراسات
الاستشراقية عن الفنون الإسلامية، فتقول إن الغرب يلجأ لاستخدام العبارات السطحية
لتبرير وتفسير بعض الظواهر الإبداعية في الفنون الإسلامية؛ كعبارة "النفور من
الفراغ" أو "الفزع من الفراغ" المعروف بميل "الفنون الإسلامية
إلى شغل المساحات على نطاق واسع بالعناصر الزخرفية"، وتؤكد "نصر"
في هذا السياق أن النمط الفكري الغربي في تفسير هذه الظاهرة ينظر إليها بآفاق
العقلية الغربية التي تستخدم الفراغ كجزء جمالي من التكوين في فنونها.
وتلفت المؤلفة النظر إلى الاستعمال التعسفي لمفهوم
التجريد لتفسير الفن الإسلامي، حيث يتم التعامل مع مفهوم التجريد بحسب ما يعنيه في
السياق الغربي على أساس كونه "رد فعل ضد نظرية المحاكاة بمختلف صيغها"؛
فالتجريد بالنسبة للفكر الغربي هو غياب التشابه بين طبيعة الأشكال المرسومة وما
يناظرها في العالم الحقيقي، أما مفهوم التجريد في الفن الإسلامي، كما توضح "أمل
نصر"، فهو عملية "استلهام حركة الطبيعة ونُظُمها وقوانينها في التشكيل
والتلون والنمو والانتظام".
يتعرض هذا الفصل أيضا إلى قضية التمثيل والتجسيد في
الفنون الإسلامية التي طالما نظر إليها المجتمع الغربي، كما جاء في معجم أكسفورد
للفنون، على إنها علاقة عداء ضد تصوير كل ما هو "حي"، والنظر إلى الحضارة
الإسلامية على إنها معادية للصور أو محطمة لها، وتقول المؤلفة إنه قد يكون من الأنسب أن نعبر
عن وضع التصوير في الحضارة الإسلامية باستعمال مفهوم انتفاء الأيقونية "Aniconism" بدلا
من "iconoclasm" عبادة الأوثان، والمقصود
بالمصطلح الأول هنا هو انتفاء الأيقونية البشرية أو التجسيد البشري للشخصيات
المقدسة في الفنون الإسلامية، وترى المؤلفة أفضلية استخدامه
بدلا من المصطلح الثاني الذي يحمل بعض الدلالات العدائية ضد الفنون التي تقدم
تجسيدات للبشر.
وفي الفصل ذاته تستنكر "نصر" رؤية الفن
الإسلامي باعتباره فنا إدراكيا صرفا "لا يتوجه إلا إلى الفكر النظري المحض"،
وليست لديه القدرة على "الإثارة العاطفية"، وهو ما تعده الدراسات
الاستشراقية وجه نقص وقصور في الفنون الإسلامية. وترى الكاتبة أن الفن الإسلامي قادر
على مخاطبة الجانب العاطفي لدى الإنسان لكن على مستويات لا تلتقي بما يوازيها من
مثيرات عاطفية في الثقافة الغربية لتكون كافية للتأثير عاطفيا في المتلقي الغربي
بحكم طبيعته الثقافية المختلفة؛ أي أن المعيار مختلف باختلاف طبيعة الثقافة
والفلسفة والأهداف الشرقية والغربية. وتختتم نصر هذا الفصل ببعض سطور "إتيان
روسو" حول خطورة فصل المنتج الفني عن الإطار الثقافي الذي بزغ فيه وما يعقب
ذلك من قصور في التفسير وسوء تقدير للقيمة الفنية والأيديولوچية والجمالية التي
يحملها.
ثانيا: مفهوم
المحاكاة في الفنون الإسلامية
يقدم هذا الفصل شرحا مفصلا وبيانا للفرق بين فكرة ومفهوم
المحاكاة في الإطار الفكري الغربي وفي الإطار الإسلامي، فتقول الكاتبة إن الفكر
الغربي قد قدم لنا فكرة المحاكاة على أنها محاكاة مظاهر الأشياء والوصول بها إلى أقصى
تشابه أو مطابقة، في حين قدم الفن الإسلامي فكرة المحاكاة بصورة مختلفة "تتفق ورؤيته الصوفية للكون وللوجود
بجميع تجلياته"، وتؤكد أن الفن الإسلامي ركز أساسا على مفهوم محاكاة الطبيعة
على أساس أنها "تعبر عن تحقيق الذات لا بمفهومها السطحي في الغرب بل بمفهومها
الصوفي" كما يفهمه المسلمون؛ أي أن فهم عملية المحاكاة في الفنون الإسلامية
رهن بفهم ارتباطها بإطارها الثقافي والمعرفي والفلسفي الذي نمت فيه.
تعرض المؤلفة بعد ذلك عدة تعريفات للفن – كما وردت في كتب
التراث، فتشير إلى تفسير فلاسفة المسلمين إلى الفن كمرادف للصناعة، وتذكر آراء ابن
منظور وابن خلدون والتوحيدي وأرسطو ومسكويه
لتؤكد أن لهذه الصناعة حقيقة فلسفية تعبر عن علاقة الإنسان بالكون وبوجوده وبإدراكه
لهذا الكون، وتعزي خروج ما في قوة الفنان المسلم إلى إطار الفعل والصناعة وإنتاج
الإعمال الفنية الفريدة يأتي بفضل هذا "الإدراك" المختلفة للحياة
وللوجود، كما تذكر الكاتبة أنه بحسب التعبير الصوفي فإن عملية الصنع "تبدأ من
أعلى؛ أي من الحق الذي يصنع النفس، وبالتالي الطبيعة، ويأتي دور الطبيعة لتنتج
الموجودات الحسية... ويأتي الإنسان لكي يصنع هو الآخر... حيث إن عملية الصنع "تنطلق
من الصانع الأول، وتمر بالنفس، ثم بالطبيعة، حتى تصل إلى الإنسان".
وتوضح "نصر" أن عملية الصناعة في هذه المراحل هي
عبارة عن عملية "إعطاء صور للهيلولي" أي لما هو مجرد وخام – بمنحه
صورا وجواهر وبنيات معقدة تحاور في نسقها ونظامها الأشكال التي تصطدم بمقومات المادة
في عالم الواقع؛ فالمحاكاة إذن تكون من ناحية المبدأ لا من ناحية العرض؛ ومن ناحية
"كيفية البناء" لا من خلال المظهر الخارجي. وتوضح الكاتبة أن محاكاة
الطبيعة تتم باعتبارها "قوة خلاقة" تندرج تحت ما يعبر عنه إخوان الصفا "بالتشبه
بالإله بحسب الطاقة الإنسانية"، وتضيف إن غاية التشبه لم تكن منافسة
الإله في الخلق، "بل كانت وسيلة للتقرب منه تحقيقا للذات التي اعتبرت خليفة
الله على الأرض".
وفي هذا السياق تشرح الكاتبة أن الفنان العربي المسلم
صنع أعمالا فنية تتماس وتتفق مع مكونات الطبيعة من حيث البناء، وبررت ذلك بكون "النفس
تشتاق إلى الاتحاد بالمعقول لا بالمحسوس"، وعليه تؤكد أن الفن الإسلامي ينحدر
من رؤية جمالية فلسفية تشمل الإنسان والطبيعة؛ فالفنان يقف أمام الطبيعة باعتباره
جزء منها – فهو جزء من الوجود الي يُسَبِّح للخالق،" و"نحن لا
نستطيع فهم الفن الإسلامي بمعزل عن هذه الرؤية"، وتشيرإلى نظرية الكون في
فلسفة الكندي وإخوان الصفا التي تقول بوجود انسجام في كل شئ في الكون يتراءى جليا
في وحدة النظام الكوني المتكامل والمتسق والمنسجم بشتى أجزائه التي تشكل وحدة
قائمة على مبدأ واحد، يقوم كل جزء فيها بوظيفة محددة ضمن المنظومة الجمالية
العامة.
تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى استعراض ما وضعه الكاتب "عبد
الفتاح الرواس" من مبادئ عدة تشرح
الوعي الجمالي الإسلامي الذي يتسم بالميل إلى التوحيد، وبالوحدة الفكرية والفلسفية،
وبالإيقاع الحركي المنضبط الذي يعكس بدوره الانضباط الكوني، كما أنها تبين في ذات
السياق أن منطلق التوحيد يردنا إلى الكلي المطلق الجمال؛ لأنه ليس هناك جمال قائم
بذاته معزول عن دلالاته، وأن منطلق الوحدة هو تمام الجمال في المخلوقات من وحدة
وتناسق وانسجام ظاهر وباطن؛ وأن منطلق الحركة ليست مادية فحسب بل جمالية أيضا بطريق
متكاملة تتسم باطراد الحركة – لأن كل ما في الكون مغمور بالحركة.
وتتناول "نصر" علاقة الاتصال بين مظاهر الكون
من ناحية والعناصر الفنية في المنمنمة الإسلامية من ناحية أخرى، وتقول إن مظاهر
الكون تتحول في المنمنمة إلى أيقونة يمكن التأمل فيها، فالمصور المسلم لم يكن يهدف
إلى نقل الواقع نقلا حرفيا دقيقا، بل إن الموضوعات التي يرسمها كانت تعكس – من
خلال اللون والضوء والتكوين – صورا من حياة الإنسان الشرقي، وتضيف الكاتبة أنه في
المنمنمات يلتقي البعد المادي مع البعد الروحي في صورة فنية مكثفة جمالية وحياتية
وروحية؛ فالمنمنمة الإسلامية تقدم صورة مصغرة للعالم المادي والروحي للإنسان
الشرقي، وهي لون من ألوان الإبداع تتوالف فيه شتى الفنون: العمارة والتصوير
والموسيقى والشعر، والرقص والزخرفة ، في وحدة توليفية متناسقة تنطق برؤية جمالية
واحدة، متغلغلة في البناء العضوي العام للمنمنمة في انسيابية جميلة للإنسان في الطبيعة،
وذلك بصورة تجعل عالم المنمنمة الصغير ينقل تنظيم العالم الأكبر الذي خلقه
الله.
وتشرح الكاتبة في نفس الفصل أن التصميم الفني في
المنمنمة الإسلامية يعد انعكاسا للتصوير الإسلامي القرآني للفردوس، وهو ما يعرف بالنظرية
الفردوسية أو نظرية التضاد البيئي، وتضيف أن التناسق والانسجام في المنمنمة يكوِّن
حالة بصرية خاصة تتساوى فيها كل العناصر وتتكامل "من نباتات وأزهار وأنهار
وأيضا الإنسان الذي لم تقدمه المنمنمة بتميز خاص لا في الحجم ولا في الآداء"؛
إذ يتم تصويره بوصفه جزءا من نسيج التكوين الفني للمنمنمة، وهو في هذا "لا
يتمتع بأي تبجيل خاص فيختفي ظله ووزنه، ولا يشكل موضوعا منفردا للعمل الفني".
ثالثا: فن
المنمنمات الإسلامية بين الدنيوي والديني
في أول هذا الفصل تشير الكاتبة إلى الإطار النفعي
الذي انحصرت فيه المنمنمات الإسلامية بحيث اقتصرت على وظيفتها الإيضاحية
كرسوم في المخطوطات العلمية والطبية والأدبية، وتؤكد بعد ذلك أن المنمنمة في الفن
الإسلامي كانت هي الشكل الفني الوحيد في التصوير الإسلامي الذي اتسع ليشمل مظاهر
الحياة الدنيا بحكايات عشاقها ومحبيها، وحروب فرسانها، وأدبيات
فنانيها، واختراعات علمائها، وأدوية أطبائها، وأعمال بنائيها، وحتى صور شياطينها
وحكاياتها الخرافية. واستشهادا على الثراء
التعبيري الفني والدلالي للمنمنمة الإسلامية تقتبس "أمل نصر" قول الفنان
شاكر حسن آل سعيد بأن المنمنمة تجمع بين الحركة والسكون في التجريد المكاني، وفي
تجسيد موضوعاتها؛ فالمنمنمات فن ينطوي على التجريد والتجسيد معا، من خلال رؤية
فنية تقع في منطقة وسط ما بين القيم الأخروية والدنيوية، كما أن النظام التجريدي
الذي توجد فيه تلك العناصر المشخصة لا
يكتمل على مستوى المعنى بمجرد ظهور الأشكال المرسومة فقط، بل يسهم النسق الذي يربط
بين الأجزاء الفنية المكونة للتكوين الفني للمنمنمة في بناء المعنى الإجمالي
للقطعة الفنية الإسلامية، وهو نسق يتسم بالتوافق التام بين إيقاعي الحركة والسكون،
وبين الحدث – ذي الأبعاد الثلاثية – المراد تصويره، وبين السطح الفيزيقي ذي
البعدين للشكل نفسه.
رابعا: جماليات
المكان في المنمنمة الإسلامية
نلحظ في هذ الفصل التركيز على أن فن المنمات الإسلامية يبتعد
عن التعيين الزماني ومن ثم المكاني، أي أنه فن يتسم باللاتعيين الزماني فكريا
ونفسيا – أي بـالأبدية كحالة فلسفية، وعلى هذا فهي أعمال فنية تقدم تعيينات
لما تجري به الأحداث من خلال مبدأ الديمومة وهي معنية بملامح ومعايير الزمن النسبي
أو النفسي وتعبر عنه بصريا بأسلوبها الفني الفريد. كما أن إيقاع الأجواء اللونية عند
الفنان المسلم، بحسب رؤية الناقدة، قائم على مبادئ التبادل والتضاد والتكامل. والفنان
المسلم في بنائه للتكوينات الفنية يعتمد أسلوب الانتشار المكاني للتعبير عن
الأبعاد، فتتحول مساحة العمل الفني إلى مجال يطرزه الفنان بالرسوم والألوان دون
التقيد بتحديد موقع معين، وهو في ذلك يسعى إلى تصوير كل وحدة على حقيقتها – مجردة
عن "تلك الظروف الطارئة من ضوء وظل واختفاء وظهور أو تقديم
وتأخير".
إن حرية الفنان المسلم في التعبير عن الزمان والمكان في
المنمنمة الإسلامية تلغي منطق التشابه والتماثل التقليدي؛ ففي المنمنمة لا يمكننا
الإمساك بزمان أو مكان محدد حيث أن الفنان المسلم يعد الوجود بكل مظاهره – من
طبيعة وإنسان – وجود اعتباريا، وهو حين يستخدم مظاهر هذا الوجود في أعماله الفنية
يستخدمها بوصفها رموزا في المطلق: غير محدودة بزمان ولا بمكان، ذلك لأن مظاهر
المكان لا تشكل طرفا محوريا في موضوع العمل الفني، بل على العكس – إن الفنان
المسلم غالبا ما يشغل الفراغ في أعماله بصورة زخرفية وفنية مكثفة لأسباب روحية
تحول علمه الفني إلى آداة ديناميكية تخاطب الروح، وتصف الكاتبة هذا الفن بأنه فن
يضم رموزا واصطلاحات أكثر من الوقائع والأحداث، وبأنه فن لا يتعلق بالمظاهر
الواقعية المكانية، بل بالأبعاد الروحية التي يستهدف الفنان مخاطبتها في وجدان
المتلقي.
وفي هذا الإطار تناقش "نصر" بعض الحلول
الجمالية التي اعتمد عليها الفنان المسلم في طرحه لفكرة المكان، فتناقش المنظور
الروحي الذي عبر الفنان المسلم من خلاله عن المكان، بتقديم المشهد الفني برؤية شاملة
"لا تحدها زاوية بصرية ضيقة" لأن هذه الرؤية الفنية تعبر عن رؤية
فلسفية شاملة تتجه إلى جميع الأشياء على اختلاف وجودها في عمق الوجود. وتشير
إلى المنظور الرأسي الذي تقدم فيه المنمنمة تصويرا مختلفا للمكان والأشخاص، بحيث
يحتوى العمل على خط أفق مرتفع ويتم توزيع الشخوص فيه على مستويات مختلفة فتصبح
معظم مساحة المسطح التصويري عبارة عن "أرضية" أو جزء من منظر طبيعي، وتستطرد
بالإشارة إلى الأفق الوهمي الذي يعد آداة مختلفة من أدوات الفنان المسلم لتحقيق
تأثيرات المنظور في تصوير المكان في المنمنمة الفارسية، بأن يتم وضع تل في خلفية
المنظر يعبر عن الأفق من خلال وجود انحدار حاد في المنظر، وكنمط سائد في بعض
الأحيان يتم بناء التكوين ليبدو وكأن الأشخاص تخرج من خلف تل صغير يشغل أحد أركان
الصورة، مما يتيح تخيلا لامتداد الفراغ الفعلي للتكوين الفني.
وتشرح الكاتبة كذلك أن افتراض الرؤية من موقع مرتفع تعد
واحدة من المعالجات الشائعة للمنظور والرؤي المكانية في البناء الفني للمنمنمات الإسلامية،
فيتخيل الفنان أن المشاهد ينظر من موقع مرتفع، فيرسم المبنى وكأنه يراه من أعلى
وتظل بقية أجزاء التكوين في مستوى النظر، ويميل الفنان المسلم – إضافة إلى ما سبق –
إلى استخدام الميل كوسيلة للتعبير عن العمق المكاني وذلك عبر توظيف بعض الخطوط
المائلة من أجل إضفاء عنصر الحركة في اتجاه العمق المكاني، أو ترتيب العناصر بشكل
مائل فوق شرائح من المساحات المائلة هي أيضا، ويعتمد الفنان المسلم كذلك تقنية التقطيع
الرأسي للفراغ من خلال تقسيم الفراغ طوليا باستخدام مجموعة من العناصر الفنية وهو
ما يوحي بالعمق في التكوين الفني للمنمنمة، ويميل أيضا إلى توظيف طريقة المستويات
المتداخلة التي يستخدمها للتعبير عن أبعاد المكان بتوالي الخطوط والألوان فيه بهدف
جذب عين المشاهد وتوجيهها لتأمل جميع الأشكال المتداخلة جزئيا التي يتم تلوينها بألوان
فاتحة وداكنة بالتبادل ليحقق الفنان بذلك نوعا من الوحدة والترابط.
وتختتم الكاتبة الفصل بالإشارة إلى البعد "الثالث اللولبي"
الذي يصممه الفنان بحيث تنتقل فيه العين من بؤرة الصورة إلى حواشيها بحركة متصلة
لولبية، وقد خلصت "نصر" من استعراض ذلك النمط الفني إلى أنه يتماشى مع
المفهوم التصاعدي الروحاني للمنظور في الفن الإسلامي، مشيرة إلى دراسة "بابا
دوبولو" لهذا التصميم في كتابه جمالية الفن الإسلامي ولتعريفه لهذا
البناء اللولبي بأنه علامة الانتقال من العالم الخارجي - الذي تشير إليه نصر
بالملأ الأعلى – إلى الأرض.
خامسا: القيمة
الجمالية التعبيرية للزخرفة في المنمنمات الإسلامية
يتناول هذا الفصل الطبيعة الزخرفية التي تميز المنمنمة
الإسلامية وما يتعلق بجمالياتها المادية مثل نوع الورق الذي كان يستخدم في
المنمنمات وأسلوب الترخيم الذي يدخل كعامل أساسي في التصميم المبدئي لبعض
المنمنمات – كتصميم الأرضية وإطار المنمنمة، حيث قدمت المنمنمة الإسلامية تصورا
خاصا للسطح من خلال التكوينات المتعددة لشكل السطح الفني وتحويله إلى ما يشبه النسيج
المطرز بتكوينات فنية مختلفة مليئة بالحركة. كما أن الوحدات الزخرفية في المنمنمة
الإسلامية تأتي إما في صورة وحدات هندسية مجردة، أو هيئات لموضوعات لها قيمة
زخرفية خاصة لا يمكن فصلها عن معانيها في التكوين والمحتوى.
وعلى مستوى التكوين تشير "نصر" إلى أن هناك
نوعين من الوحدات: وحدة قائمة على علاقات لا نهائية يثير فيها التكرار إعمالا
ذهنيا من طرف المتلقي وتتجسد في أشكال النباتات والتكوينات العضوية من خلال خطوط
تتقاطع وتتخذ هيئات وتصنع إيقاعات وأبعاد لا نهائية؛ ووحدة الحواف (وتأتي في
الزينة والأطراف والحاشية) وتتحقق من خلال السيطرة الزخرفية بالتموجات والخطوط على
الحواف أو الحاشية كاشفة طبيعة النمط في الآداء الخطي. وتوضح أن الوحدات المتشابهة
التي ليس فيها تناظر تخلق نوعا من التوتر والتغير والخلخلة لكل ما هو ثابت وتكثف
فكرة التكوين، كما الألوان دائما ما يتم توضيفها في إيجاد حلولا ثرية للأشكال
متناهية الصغر التي تنطوي جميعها تحت نظام الانتظام الذي يسيطر على المنمنمة
الإسلامية.
سادسا: جماليات
التكوين في المنمنمة الإسلامية
يطرح هذا الفصل فكرة جماليات التكوين ودلالاته الفلسفية
في المنمنمة، فالتكوين في المنمنمة الإسلامية يبنى على فكرة "اللاتماثل
والشكل المفتوح" التي تقتبس الكاتبة إشارة هيربرت ريد لها بوصفها "تكوينا
ديناميكيا مفتوحا" – وهو في المنمنمة شكل متصاعد البناء تكون حدود الصورة فيه
"حدودا مجهولة كما يُجهل السطح الحقيقي لقماشة الرسم؛ فالإحساس المكاني الذي
تقدمه الصورة هو الذي ينساب إلى داخل الصورة أو خارجها، وبينما تتقدم خطوط الحركة
كما لو كانت تأتي من مصدر مشترك، فإنها تكون متساوية متضادة؛ فخطوط القوة ذات
طبيعة طاردة لكنها متوازنة."
انطلاقا من هذا توضح "أمل نصر" أن التكوين في المنمنمة
يعتمد على تفكيك القالب المكاني الراسخ والتخلي عن التكوين المقفل ذي النقطة
المركزية الذي وضعته فنون عصر النهضة الأوروبية، فقد سعى الفنان المسلم إلى خلق شئ
متحرك محلق والإيحاء بذلك في المنمنمات، وسعى كذلك إلى محو الحدود والخطوط الواضحة،
وإلى تكوين انطباع بوجود اللامتناهي وغير المحصور وغير المحدود، وتحويل الوجود
السكوني الجامد الموضوعي إلى صيرورة دائمة. ففي التكوين المفتوح للمنمنمة تنهي
اللونيات الانفصال بين مكونات الشكل ويسود الإيقاع الحر الذي تتحرك به شرائح
الكتابات داخل المنمنمة، ويختلف داخل تفاصيل فنية أخرى عدة تخضع كلها لطبيعة
تفاصيل البنية الجمالية الخاصة بكل منمنمة.
سابعا: العلاقة
الجمالية بين الكلمة والصورة في المنمنمة الإسلامية
يلقي هذا الفصل الضوء على تجاوز المنمنمات الإسلامية لوظيفتها
التقليدية كآداة فنية شارحة ومفسرة للنصوص الأدبية أو الدينية أو العلمية أو
التاريخية، وتألقها كعمل فني مستقل ببنائه المختلف ورسالته وجمالياته، ذلك بحيث
يكون موضوعها الذي تم توظيفها للتعبير عنه "ذريعة" لإبداع الصورة الفنية
بإيحاءاتها المتنوعة، كما أنها امتلكت القدرة والمرونة الفنية الكبرى لتتحول
الكلمة داخلها إلى مفردة شكلية تتحرك وتتخذ تنويعات عدة لتصبح في النهاية جزء من
النسيج البصري للصورة، وتعليقا على ذلك تقول الكاتبة: "إن المساحات المشغولة
بالكتابة تتضافر مع المساحة المصورة نسيجا واحدا، فلا نستطيع أن نفرق بينها أو
نشعر لوهلة أن الكلمة دخيلة على الصورة، بل اكتسبت مساحات الكتابة إيقاعا لونيا
ونغميا وملمسيا يناسب الآداء المطروح في كل منمنمة على حدة، فإذا كان الخط يبدأ
أولا ثم يكمل المصور فهذا تكامل بالغ الانسجام ووحدة نادرة بين ثنائي من المبدعين،
وإذا كان الخطاط والمصور شخصا واحدا فقد استطاع ببلاغة أن يقدم عملا تصويريا
متكاملا، كانت الكتابة أحد عناصر بنائه في كل منسجم."
تضيف الكاتبة أن المنمنمة الإسلامية تستمتع بالحرية في
تناول الموضوعات على الرغم من وجودها في إطار فن الكتاب لأنها كانت تعد فنا خاصا
يتقصر اقتنائه وتداوله على طبقة الحكام الذين كانوا يستخدمونه لمهاداة السفراء
وأفراد الحاشية من باب المكافأة أو لتكوين علاقات دبلوماسية أو غير ذلك، فهناك مثلا
عدة زوايا للنظر إلى العلاقة بين التصوير والخط في المنمنمة؛ ففن الكتابة يتسم بالنظام والدقة، ويتطلب أحيانا من الفنان
الخضوع إلى قواعد التكوين والتصميم، والتقيد بسياقه النفسي، وبالطبيعة الجمالية
لفن الخط الذي يلائم التصميم الفني، أما من الناحية التقنية فيتم أحيانا فصل
المساحة المخصصة للكتابة بصورة لا تتنافر مع الهيئة الإجمالية للتصميم، فتأتي الصورة
باعتبارها لوحة إيضاحية تتوسط صفحة الكتاب أو تشغل أحد جانبيها، أو تأتي أسفل النص
أو أعلى الصفحة أو تتوسط الصفحة ويحدها من الجهتين أجزاء النص، إلا أن الأمر – وفقا
للناقدة – لا يخلو من رابط صغير مثل خط ملون شفاف من ألوان المنمنمة يتحرك فوق
النص، أو من إيقاع زخرفي من نفس نسيج المنمنمة يستقر منه جزء داخل النص فيضفي
ترابطا بصريا وتناغما لونيا وبنائيا، وقد ظل الأمر كذلك إلى أن بدأت الكتابة في
التوغل داخل نسيج المنمنمة في القرن الخامس عشر.
وتتناول الكاتبة في هذا الفصل أيضا السمات الفنية لتنويعات
مسطحات الكتابة في المنمنمة باعتبارها أسدال هندسية منتظمة تأتي على شكل شرائح
هندسية منتظمة أو غير منتظمة من أعلى التصميم، أو تدخل في أدنى العمل أو تتوسطه، وتتخللها
في الوقت ذاته زخارف وفراغات، وهي تأخذ في هذا نفس الطابع الخطي والإيقاع البصري،
وتلتحم تماما بالشكل المصور في المنمنمة وتتكامل معه بغير تنافر، كما أن استخدام
الشكل المائل في مسطحات الكتابة للتعبير عن العمق المكاني والتعامل مع المسطح من
خلال حركة الميول في الأشكال يوضع في علاقة حية مع باقي مكونات الصورة، ويكون الخط
المائل حاضرا وسريعا في علاقته بالعمق المكاني ومتصلا به، وتوضح "نصر"
أن لشرائح الكتابة المائلة دور مهم في المنمنمة يتمثل في تحقيق الميل المعاكس مثلا
الذي يتكامل مع الرسم في المنمنمة أو كجزء من معمار التكوين، وأن مسطح الكتابة في
شكل مستقل يلعب دورا بصريا مع العناصر الفني الأخرى المكونة للمنمنمة، ويدخل كعنصر
فني يسهم في اكتمال التكوين في المنمنمة ذاتها وليس كشرائح مضافة أو متوازنة مع
التكوين. وتتخذ مساحة الكتابة نفس الإيقاع الحركي للتصميم ونفس التنغيمة الخطية
العضوية في خلفية الكتابة، يتم تحديدها بنفس ألوان العمل وتتفق خلفيتها مع ألوانه
وتتخذ الكتابة اتجاهات تقابل أو تتكامل مع
إيقاع الخطوط في تصميم المنمنمة.
هكذا جاء منهج الكتاب نقديا تأريخيا وتحليليا في نفس
الوقت، فهو ينقد فكرا سائدا حول أحد أشهر الفنون الإسلامية وأكثرها تميزا وخصوصية،
ويفند الكثير من المعتقدات الخاطئة والمزاعم التي أحاطت بالفنون الإسلامية، ويعيد
تعريف القارئ العربي بالكثير من خصائص هذا النوع الفني الفريد. ويقدم الكتاب تفنيده
للمعتقدات الخاطئة حول هذا الفن بطريقة نقدية شارحة ومفصلة، مدعومة بالمصادر
والآراء الفلسفية والفنية الجمالية المختلفة التي تتفق مع وجهة نظر الكتاب من
النواحي الفلسفية والجمالية والدينية، وذلك باعتماد الكاتبة على مصادر الفلسفة
الإسلامية وما يتفق معها من اليونانية القديمة والغربية الحديثة، وتمت صياغة كل
هذا في نص لغوي سلس، خال من التعقيدات التي يمكن أن تحول دون التواصل العميق للقارئ
العربي مع مادة الكتاب وأفكاره، وعلى هذا فإن الكتاب يعيد تشكيل رؤية القارئ
العربي إلى فلسفة الفنون الإسلامية ليتعدى نظرته إليها بوصفها مجرد تكوين شكلاني
منتظم يخضع لقواعد بصرية وتشكيلية منضبطة وصارمة، ويأخذه إلى آفاق فكرية وفنية
أكثر اتساعا ونضجا عبر نص بحثي دقيق وسلس ومختصر وممتع.
Comments