مقتطفات من ورقة بحثية قصيرة نُشرت باللغة العربية في دورية "فيلولوجي" التي تصدرها كلية الألسن - جامعة عين شمس

”أنشودة الملاَّح القديم“
من صموئيل تايلور كوليردچ إلى پول جوستاڤ دوريه:
دراسة في النص الموازي
آية مؤنس

يتناول البحث نص ”دوريه“ البصري بالدراسة والتحليل جنبًا إلى جنب مع أصله الشعري الموازي في قصيدة ”المَلاَّح القديم“، وثَمَّةَ مُناخ شعوري ودرامي رومانتيكي واحد يربط بين النص الشعري وتأويله البصري نظرًا للتقارب الشديد بين الجوانب الثقافية والإنسانية لدى كل من دوريه وكولريدچ ومن هنا فإن البحث يهدف إلى:
(1) التركيز على العناصر السيميائية في النص الشعري وانتقالها إلى التأويل البصري وما لحق بها من تغيير فضلاً عن ملاحظة نسبة التقارب أو التنافر بين النص الشعري وتأويله البصري من حيث الأجواء النفسية والبناء الدرامي للمشاهد الفنية.
(2) دراسة المراحل والأساليب والأدوات التي مَرَّ بها كل من النص الشعري والبصري ونسبة التكامل الدلالي بينهما من حيث القدرة على تقديم معادل بصري مكافئ للشخوص وشارح للنص الشعري في آنٍ.
يتجلَّى الحضور الرومانتيكي في القصيدة وفي التمثيلات البصرية على عدة مستويات؛ منها: الحضور الفاعل لبعض عناصر الطبيعة وعلى رأسها طائر القطرس وسمك ”ثعابين البحر“، فقتل الأول جريمة يعاني الملاح القديم بمقتضى إثمها أهوالاً عظيمة، ومباركة الثاني تفتح له بابًا للخلاص، ويمثل ذلك لُب الفكر الرومانتيكي القائل بأن الطبيعة هي ”ثوب الله الحي“[1]، وقدسية الطبيعة التي قصد كوليردچ أن يرسخ قيمتها من خلال كل أحداث القصيدة يقدم دوريه وجهًا واضحًا منها في تصويره الفني المُكثَّف في أول مشهد لظهور طائر القطرس حيث يأتي هابطًا من أعماق السماء مُحاطًا بهالة ضوئية رقيقة كوَّنها دوريه بالحفر على عمق زائد نوعًا ما ولكنه محسوب، وباستخدام أدوات الحفر يعمل على تنعيم حواف السطح الخشبي المحيط بقوس النور فيتحول في الطباعة إلى هالة نورانية مشعة تطلق طائر القطرس إلى السفينة
توضح التغييرات التي أجراها كوليردچ على النص الشعري إلى أن استقر على صورته الحالية إصراره على التأكيد الشديد على الجانب الزمني القديم الذي تنتمي إليه القصيدة، فقد أورد ذلك في العنوان، وغَيَّر العديد من الكلمات لتناسب تلك الأجواء القديمة، فضلاً عن اختياره للقالب الشعري للأغنيات الشعبية القديم رغم عدم التزامه التام بقواعدها الشعرية والبنائية، ويندرج تحت عزيمته على ذلك التوكيد إضافته للهوامش والحواشي التي تتضمن شروحًا للكلمات الصعبة الواردة في متن النص الشعري. ولم يَفُت دوريه الاهتمام بترسيخ ذلك الجانب الزمني بصريًّا بصورة مُكثَّفة عن طريق اختياره لخامة الخشب ولتنفيذ ذلك العمل بتقنية الحفر ليتمكن من استغلال الإمكانات البصرية لتلك الخامة أفضل استغلال يخدم ذلك الجانب الحيوي في النص الشعري.
جاء استلهام النص الموازي رومانتيكيًّا مُفَصلاً يغلب عليه طابع الزمن القديم نظرًا للتقنية والألوان كما سبقت الإشارة، وهو استلهام مُقدَّم في في قالب فني درامي يتعين في التكوينات الفنية للمشاهد في الطبعات الفنية، وفي الحركات الجسدية وتعابير الوجه والإضاءة وترتيب الطبعات الفنية حسب الأحداث متضمنًا تقديم خط سردي درامي واضح يقدم مشهد الاستهلال الحكائي ثم مشاهد التصاعد الدرامي وصولاً إلى ذروة الأحداث ومنها إلى انخفاض التوتر الدرامي وصولاً إلى المشاهد النهائية التي تعرض لنهاية الأحداث والمصائر. وقد تخلل ذلك التقديم الفني الدرامي عدة عناصر تقنية منها الرمزية البصرية والتكرار غير المنسوخ لبعض تلك العناصر الرمزية
تطرح القصيدة مجموعة من الأفكار المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفكر المسيحي، فهي تتعرض لارتكاب الإثم (حتى وإن لم تكن له دوافع ظاهرة أو أسباب واضحة)، ثم لمرحلة التكفير والتوبة والاعتراف ثم الخلاص النهائي. وقد جاء ذلك مُتَضَمَّنًا مفهومًا من سياق تطور الأحداث في القصيدة؛ إذ عانَى الملاح وطاقم السفينة من العذاب الحسي بعد أن قتل الملاحُ الطائرَ ووافقه الطاقم، ثم تأتي مرحلة ”الصلب“ والتكفير التي يمر بها الملاح وحده. عبَّر كوليردچ عن تلك الأزمة بإظهار واستدعاء ”سفينة الموت“ التي كانت تحمل ”الموت“ و”الحياة في الموت“ ملازمًا إياها بسرد وصفي يبعث على الانقباض
نستدل مما سبق استعراضه من أمثلة على منهجية دوريه في تقديم النص البصري الموازي للنص الشعري لأنشودة الملاح القديم، من حيث تحقيق الإفادة القصوى من الإمكانات البصرية التي تسمح بها خامة الخشب وتقنية الطباعة، ومن حيث الاستقاء من ثقافته الفنية فيما يتعلق بالطرز المعمارية وتصاميم الملابس في فترة العصور الوسطى التي وضع كوليردچ قصيدته في حقبتها الزمنية، إضافة إلى الإطار الدرامي المسرحي الذي قدم فيه دوريه أنشودته الموازية موظِّفًا إمكانات الخامة بحرفية وإتقان يتسمان بالتذوق الفني النقدي الانتقائي للنص الشعري، الأمر الذي مَكَّن دوريه من رسم مسار فكري واضح لنصه الموازي يتماشى بتكافؤ تام مع النص الشعري شارحًا ما غمض منه بتفاصيل بصرية من شأنها إثراء النص البصري وفتح آفاق دلالية جديدة للنص الشعري في الوقت ذاته، وقد اشتمل النص الموازي بهذا أيضًا على كافة العناصر الرمزية والسيميائية المحورية في متن القصيدة ابتداءً من البعد الزمني القديم، والجانب الخارق للطبيعة فيما يتعلق برسم ملامح الشخصيات، والحس السيميائي التأريخي الذي لا تخطئه أي نفس إنسانية في أي مكان، مع الاحتفاظ بنكهة الرمزية المسيحية التي أظهرها كوليردچ مُتضَمَّنة في موسيقاه الداخلية فترجمها دوريه بصريًّا بحرفية محسوبة.



[1] Forty Thousand Quotations: Prose and Poetical, comp. by Charles Noel Douglas. New York: Halcyon House, 1917; Bartleby.com, 2012. Goethe.

Comments

أحمد said…
مساء الخير يا دكتورة، هل هذا البحث منشور على الإنترنت؟