النص الأصلي الكامل
محسن أبو العزم. مبدع يجيد القراءة والرصد والـ"تتبيل"
المرأة ذات التقاطيع الضخمة
الواضحة تلتحف بالملاية اللف وترتدي الجلباب القصير المزركش والخلخال الفضي.
والرجل ذو الجلباب الطوبي أو الرمادي أو ما كان، والعِمَّة المُنهَكة من كثرة
الغسيل واللف تحتضن رأسه الـ”ناشف“. والمكان أرض مصرية يقطنها بشر بسطاء يعيشون
على فطرتهم المليئة بالمرح والبساطة والشوق والصراحة والعنف والشدة والخجل
والسخرية والاستفزاز وتتبُّع الأخبار وتناقلها، تطل عليهم مآذن المساجد تارة
وتحتضنهم بيوت الحواري المتكسرة تارة أخرى، أو يفتح لهم النهر الصغير ضفته
ليستقبلهم ويستمع لحكاويهم ساعة الظهيرة.
قراءة فنية حِسِّية وبصرية شديدة
التعمق والتفصيل مصبوغة بلون مصري شديد الدفء والحميمية والدقة والتناغم البصري
واللوني يقدم بها الفنان محسن أبو العزم لوحاته التي تجمع ألوان الحارة المصرية
وتستحضر روائحها وجلساتها وأدق تفاصيلها وأبرز عاداتها اليومية على صفحات القماش
التي تمرح عليها الفرشاة المغموسة في ألوان الزيت ساخرة صارخة متباهية تزهو
بألوانها العتيقة وتتخفى خلف رائحة البخور ودخان السجائر والأتربة على أطراف
جلابيب البسطاء. إنها قراءة تعيد تقديم البيئة الشعبية المصرية بكل أيقوناتها
الأصيلة وتفاصيلها البارزة وطقوسها الخالدة ومكوناتها شديدة الخصوصية ومناسباتها
الحافلة. إنها قراءة ثاقبة للشخصية المصرية الشعبية وتفاصيل حياتها ببساطتها
وتلقائيتها وعفويتها الصداحة ونشاطها وجموح عاطفتها وانفعالها.
نتأمل كيف ينقل ”خناقات“ المجتمع
الشعبي البسيط الذي فيه يشتبك رجل مع المكوجي الذي أحرق قميصه، ولم يأتِه الرجل المتضرر
بمفرده بل جاءه بالأصدقاء الذين يحملون العصي ويتوعدون للمكوجي الغلبان بالويلات،
في حين يلتقط في الخلفية وجه رجلين أصابتهما ”الشماتة“ والضحك المفرط على ما حل
بالمسكين المستهدف أو ربما لإدراكهما أن نفس المشهد لن يلبث أن يتكرر بعد سويعات
حينما يأتي صاحب القميص الذي يحترق تحت أقدام المكوجي أثناء ”الخناقة“ ويعيد معه
الكَرَّة، في حين تتأجج نار ما في خلفية اللوحة كانعكاس لثورة المتضرر الذي أصر
على الفتك بالمكوجي الـ”مُهْمِل“.
يسكب الفنان محسن أبو العزم تلك
المكونات كلها في قالب مُلَوَّن بألوان تأتي أحيانًا داكنة مُعَتَّقة تشبه لون
الطين الأصيل الذي يلعب به أبناء الريف النقي الصافي، وأحيانًا أخرى ترسم الألوان
كرنفالاً مزركشًا تزينه وحدات فنية مستقاة من البيئة الشعبية بممارساتها الشعبية
الشهيرة، ومن ترجمة أمثالها الأكثر اندماجًا والتحامًا بتلك الطبقة، ومن عاداتها
وموروثاتها الشعبية القديمة، بالإضافة إلى لقطات من أماكن مختلفة ولبعض المِهَن
القديمة التي يقدمها بريشة قوية واقعية صريحة ساخرة تجعل لإنتاجه الفني دفئًا
خاصًّا لا يستمتع به إلا مصري أصيل متعلق بكل تفاصيل الحياة المصرية غارق في روح
الدعابة ”الشقية“ الخفيفة التي تعلنها فرشاة أبو العزم في كل لقطة.
تأخذك الفرشاة الساخرة في رحلة
ممتعة تعرض لك فيها صنوف النساء في البيئة الشعبية. تتنقل اللقطات ما بين المرأة
”الغندورة“ التي تُصِر على التجمُّل والتدلل رغم دمامتها ولكنه يركز على السذاجة
في تقاطيع الوجه التي تعبث فيها بالألوان بغير تنميق ولا مراعاة حتى للون بشرتها
السمراء فتبدو في النهاية كالمُهَرِّج الذي يسعد بـ”تلطيخ“ وجهه بالألوان وينظر
إلى نفسه في المرآة بزهو وتفاخر بنظرة تشي بالمكنون: ”أنا وحشة وعاجبة روحي وأشوف
الوِحِش تطلع روحي“. ويقدم أيضا نموذج ”الست النَّمَّامة“ التي تشرب ”شاي العصرية“
مع جارتها في المطبخ ليتبادلا النميمة و”فتش“ أسرار الخلق، و”الأم العصبية“ التي
تمارس طقوس تسريح الشعر والحموم في ”الطشت“، و”الزوجة النشيطة“ التي تمارس العجن
والخبز وتنشغل في مطبخها الصغير ”المحندق“ حيث يشاغبها طفلها ”الشقي“، ولا ينسى
”الخادمة المهملة“ مدمنة الحكاوي في التليفون، و”الماشطة“؛ تلك الأيقونة النسوية
الأشهر في المجتمعات الشعبية والتي أتى بها لتنقش بالحناء على قدم عروس دميمة تنفر
من دمامتها المعكوسة في المرآة، ويخال لك عند الاطلاع على وجهها الذي أتقن إبراز
تعابيره أنه قصد بها ترجمة المثل الشعبي الشهير ”إيش تعمل الماشطة في الوش
العِكِر؟!“.
وفي كل الأحوال فإن الأنثى لديه هي
تلك الغندورة الشقية خفيفة الظل الساذجة والبلهاء أحيانًا وإن لم تَكُن حلوة
بالضرورة، لكنها من تلك الطائفة التي تُقِل من الحركة قدر المستطاع وتتغذى على ”السمن
البلدي“ والعسل وتطارد بائعي ”القشطة“ وتستمتع بتبادل الحكايات مع صديقاتها على
الأرصفة وحول موائد الطعام والشاي. وكأنك إن أردت أن تأخذ جولة في حواري مصر وتعرف
سمات بعض نسائها وتستمع لكل من مواطنيها على حدة دون أن تفقد فرصة التمتع بالدعابة
الظريفة والروح الفكاهية اللطيفة الساخرة وتستمتع بالفُرجة على ألوان الملابس
المنتقاة بعفوية الأطفال، فعليك أن تُطالع لوحات ذلك الفنان الذي يمنحك هذه المتعة
المتكاملة.
تكمُن المتعة البصرية في لوحات أبو
العزم في تلك الملاحم اللونية التي تترابط وتتعانق وتتكامل فيما بينها لتعطيك
عددًا من العناوين الصريحة للحياة في الحارة الشعبية المصرية: العفوية والتلقائية
والبساطة وحب الحياة والزينة والجرأة في السخرية من الأنا والآخر كما يبدو في لوحة
”الخياط“ مثلاً والتي فيها يجعل الفنان البساطة والسذاجة والسخرية والحرفة منطوقة
لونيًّا وبصريًّا مترجمة بالألوان الصريحة كصراحة بعض أهل الحارة البسطاء. أما
البنية الموضوعية المُحكَمة التي يؤسس عليها لوحاته فكلها لقطات إنسانية شديدة
التوهج والواقعية، ومن أقوى ما يُذكَر هنا لوحة ”الكبابجي“ التي تقدم رجلاً يرتدي
الجلباب الرمادي يمر في انتشاء يتشمم رائحة دخان الشواء وقد اندمج واحد منهم في
إحدى اللوحات في الشم والتخيُّل في حين يمر الآخر وفي عينيه نظرة حسرة واشتهاء غير
منطوق ”لقمة لله!“، وشخصية الشيخ و”العرَّاف“ الذي يُبَخِّر الزبون ويباركه بآيات
القرآن وبعض التعاويذ والأحجبة الشعبية لدرء الشرور وجلب المنافع!
والمتعة المتكاملة التي يمر بها
المشاهد هنا تتمركز حول قدرة أبو العزم الفنية على خطف لحظات دقيقة شديدة الدفء
وتحويلها إلى لوحات إبداعية تجذب كل الحواس ويمكن أن ترسم ابتسامة تعاطف أو ضحكة
بريئة على أحد المواقف التلقائية الحَيَّة في لوحاته عن الأضرحة مثلاً وزيارة
المقامات حيث تستوقف لقطة متضاربة الدلالات والمشاعر؛ ففي ناحية يبدو الشيخ
منهمكًا في قراءة التواشيح والمدائح وتقف المرأة مسنودة على الضريح تسكب ما بقلبها
في نفس الوقت الذي يشتبك فيه الأطفال البسطاء في ”خناقة“ حامية توشك أن تسفر عن
إصابة في رأس أحدهما. وفي لقطة فنية أخرى تفترش الأم الفلاحة ساحة الضريح ومعها
”سَبَت“ العيش والخضروات وقد اتكأ طفلها الـ”ممسوس“ على فخذيها غائبًا عن الوعي في
حين تبدو طفلتها الصغيرة الشاردة منشغلة بمتابعة مشهد بدأ يلوح أمامها فجأة! وهكذا
فإن اللوحة عنده عالم مفتوح مستع يشعل كل الخيالات الممكنة في نفس المُشاهِد
فيتساءل: ماذا رأت تلك الطفلة يا تُرى؟! وماذا كانت تقول الأم؟! وهل لسع الشاي
الساخن المسكوب يد المرأة فعلاً؟! ومن كانت تنتظر الحلوة التي معها ”لمبة الزيت“؟!
إنه يجول في البيئة الشعبية
المصرية ويغوص في أعمق تفاصيلها وأدقها فيقتنص لقطات من الحياة اليومية
لـ”مِعَلِّمة“ القهوة البلدي وهي غارقة في التفكير تشرب الشيشة ساعة ”الاصطباحة“،
ويمر على بائعة الجبن ”القشطة“وهي تخضّ القِربة وتسامر الزبونة قبل أن تأخذ
البضاعة وتمضي. وفنان ساخر مثله مأخوذ بكل تلك الهوايات ذات التفاصيل الدقيقة التي
تملأ وقت البسطاء بالطبع لا يفوته تقديم حكاوي الحريم ساعة العصاري ورصد فن
”الردح“ العابر في أحاديث المساء بريشة ساخرة ترقص وتتهادى في خفة وثبات بألوان الزيت
على صفحة التوال تقدم طقوس المجتمع الشعبي المصري: ”السبوع الشعبي“.
وفي جو يعبئه البخور تزور أجواء
الموالد وزيارة المقامات والرقية والأفراح الشعبية والدراويش والزار، وتمر بجلسات
السمر بين الأصدقاء على القهاوي والعرَّاف ومغنواتي الدكاكين المحندقة، ويصطحبك
أيضًا إلى ”حلاَّق الصِحَّة“ الذي تارة ما يحلق للزبون رأسه وهو جالس أمامه على
الأرض وتارة يطبب له جرحًا أو يخلع له ضرسًا! إضافة إلى الكبابجي السَّرِّيح ،
وبيَّاع السميط والمِش ومكوجي الرِّجل و”الفِتِوَّة“ و”المزيِّن“ وبيَّاع الفول
وماسح الأحذية وثنائيات الحَبِّيبة وبيَّاع الكشري ولعب الشطرنج والطاولة
والدجَّال والشاويش ولعب الدومينو والكوتشينة والمطبخ والبخور والخناقات في
المحاكم. مشهد مصري مزدحم شديد الثراء والانطلاق حِسِّيًّا وعاطفيًّا.
وهكذا يكون تأمُّل لوحات محسن أبو
العزم من أكثر التجارب إمتاعًا وإدهاشًا على الإطلاق لما تحتويه من إمتاع بصري
منظور ومقروء خلف صفحات الألوان وطبقاتها وخبطات الفرشاة الواقعية الانطباعية
المغموسة في درجات الأوكر والأخضر المعتق والبني المصفر القديم المتعب تعانق
الألوان الزاهية التي تَسِم بيوت الحارة الشعبية ومطابخها ومبانيها القديمة
وتملؤها بالحيوية والدفء. وهو إذ يتعمد المبالغة في بعض التفاصيل لجذب الانتباه
إنما هو أيضًا للتشديد على وضوح الشخصية المصرية وجرأتها والتأكيد على خصوصيتها
الجسمية ولون بشرتها الخمري المتشرب بلون الطين النيلي الأسمر. والمرأة المصرية
بأزيائها ذات الألوان البهيجة ومنديلها الملوَّن الصغير الذي لا تخلعه من على
رأسها الذي ينطلق من تحته الشعر المصري البني الجاف المجعد. إنها مصر القديمة
الشعبية بكل تفاصيلها حاضرة تنضح بالعطر والألوان.
إن البطل الذي يغزو كل اللوحات ليس
الإنسان بشحمه ولحمه بل تلك الروح الخفيفة البسيطة ”الشقية“ الساذجة الطيبة
المتعبة الملئية بالفضول والتطفل والعشق لكل جزء من تفاصيل حياتها الغارقة في
النميمة والفكاهة الحلوة الحافية في الشوارع، بعضها يندمج مع الأجواء وبعضها
يزورها ساخرًا وبعضها يقف بعيدًا في الهامش خلف سور الحائط البعيد يسترق النظر إلى
التفاصيل التي تتفجر غضبًا وسخرية بين الحين والآخر.
آية