ومن رحم البساطة تولد الألغاز...

ومن رحم البساطة تولد الألغاز...
بقلم د. آية مؤنس حلمي

فنانة شاع عن فنها امتيازه بالبساطة والتلقائية والتحرر من قيود الأكاديمية البنائية الصارخة، ويلمس مشاهد أعمالها الانسياب البصري السلس للحظات الشعورية الفريدة التي تسكب تفاصيلها في أنحاء أعمالها، ويرى فيها أيضا تدفقا لونيا يفيض بالحيوية والطاقة وبالنزق المخلوط بالشجن، غير أن كل تفصيلة لديها محسوبة بميزان بصري دقيق، والتكوينات عندها براعم نابتة من أحضان المعابد الفرعونية القديمة، ومن أجواء الأضرحة وسحر الأيقونات.

تحية حليم، المصرية التي احتضنت بلادها "أما حبيبة" كرّست موهبتها لملاحظة وحكي وتوثيق هموم أبنائها ومرارات انكساراتهم وأفراحهم واحتفالاتهم وعاداتهم وطقوسهم، احتفظت بأسلوب فني له من الخصوصية التشكيلية ما ميّز أعمالها بروح فكرية وجمالية متفردة كونت بذاتها منهجا فنيا اختصت به "تحية"، إذ امتاز أسلوبها بالصراحة والتلقائية الشكلية، وبالميل للتنويع في أساليب التكوين الفني وتوظيف المجموعات اللونية وفي تقنية التنفيذ أيضا.

تظهر الشخصيات في أعمالها "واضحة" الهوية وظاهرة الملامح في هيئة إجمالية نُفّذت بحسابات تبتعد عن النمط الكلاسيكي الصارم ولا تخرق قواعده الأساسية، وتضم اللوحة عندها تكوينات شكلية محسوبة الكتلة والاتجاه تحمل طاقتها اللونية في اتجاه شعوري محدد لا لبس في مغزاه ولا في مضمونه، أما من الناحية المذهب الفكري للأعمال فكلها أعمال أصيلة المحتوى الفكري وفِيّة لوجدان الفنانة العاشقة لوطنها ولكافة تفاصيله.

أرّخت الفنانة "تحية حليم" بلوحاتها لمراحل مختلفة من تاريخ "أمها الحبيبة" ولطقوس مختلفة يمارسها "أبناء مصر"، ومن بين تلك الطقوس ما يظهر في لوحات: "الصيادون"، "السقا"، "طهور"، "الأسرة"، "الخبز"، ومن بين لوحات التأريخ: "عدوان 56"، "نكسة 67"، "أمل السلام"، "حريق القاهرة"، "رماد حريق القاهرة"، "خروج الانجليز من القاهرة" ولوحاتها عن "النوبة" و"السد العالي" و"المسجد الأقصى". وفي السطور التالية نقترب قليلا من تفاصيل لوحة "خروج الانجليز من القاهرة" لتأمل تكوينها وبنائيتها وتقنية تنفيذها.

رسمت اللوحة بالألوان الزيتية على قماش مساحة 80 X  120 سم عام 1956 متى تم رحيل الانجليز عن مصر بموجب اتفاق جلائهم عن قاعدة قناة السويس، رفع بعدها الزعيم "جمال عبد الناصر" علم مصر على مبنى ترسانة البحرية في مدينة "بورسعيد" في 18 يونيو الذي صار من وقتها عيدا يحتفل به المصريون كل عام وسُمي "عيد الجلاء"، واللوحة تلتقط تلك اللحظة من زحم الأحداث التاريخية وتستخرجها وتفصلها في مشهد فني خالد اقتناه الدكتور المهندس عمر عبد العزيز.

ويظهر في اللوحة مبنى البحرية في الجزء العلوي يحتل الجهة اليمنى ملون بدرجات الأحمر الطوبي والدموي ودرجات من البنفسچي والأصفر، وكأنها ومضات دلالية تذكر المشاهد أن تاريخ تحرير هذا الوطن من سطوة الاحتلال والاستغلال حافل ببقع من دماء أبنائه الشهداء، وفي بقعة ما وسط الزحام الأسود الذي يُظهر احتشاد المحتلين المغادرين، يطغى اللون الأحمر أيضا – ربما قصدت به الفنانة تحميلهم إثمهم وهم راحلون، ومن حول هذا الزخم الأسود وفوقه تتطاير الأعلام الخضراء والزرقاء ويظهر أحد الأعلام "خفاقا" على سطح "مبنى البحرية" في سماء صافية يؤكد نقاؤها وبياضها على شدة السواد المنحسر عن أرض الوطن؛ سواد منحدر إلى اللاعودة تتابعه الجماهير المستبشرة بالأعلام والهتاف.

وتظهر على سطح اللوحة قوة الشحنة اللونية المحملة على الفرشاة والتي تنقل بالضرورة وتوازي أيضا قوة الدفقة الفكرية والعاطفية التي غلبت على الفنانة لحظة إنشاء اللوحة والعمل فيها، فالكتل اللونية التي رسمت بها "تحية" الأعلام المتطايرة في أرجاء اللوحة كتلا قوية بارزة تجذب العين والانتباه وتحرّك في الوجدان الشعور بقيمة الحرية والتحرر والرغبة في الحياة بعيدا عن طوفان الاحتلال الأسود كما نقلته، هذا وتظهر أيضا حساسية الفرشاة لملامس المباني الجانب الزمني العريق لمباني القاهرة التي شهدت أحداثا تاريخية جليلة على امتداد تاريخها الطويل ومايزال العلم المصري يزين مداخلها وجدرانها. وتظهر هذه اللوحة شأنها شأن كل أعمال "تحية حليم" صدقها في التعبير وبساطتها العميقة المزدحمة بالدلالات والعواطف والأفكار.

تحية إلى المخلصة الصادقة "تحية".

Comments