قراءة
نقدية في النسيج الثقافي المصري من واقع الدورة الـ37 للمعرض العام
د. آية مؤنس حلمي
لا شك أن الأعمال
الفنية مرآة تنعكس عليها معالم حضارة الشعوب وثقافتها وتاريخها، ويتشكل من خلالها
أيضا جزء من المكانة الثقافية المعاصرة للشعوب على خريطة الثقافة الإنسانية العالمية؛
فمرآة الفن تعكس إيقاع النبض الثقافي المعاصر ومدى تفاعله مع المكونات التراثية والعناصر
الفكرية والفنية الحداثية والحديثة، وتتمثل فيها أيضا آثار التفاعل الأيديولوچي
والنفسي بين وجدان الفنان وعوالمه المختلفة: النفسية الخفية أو المجتمعية الصغيرة
أو العالمية الكبيرة لكون تلك الأعمال الإبداعية ابنة هذا التفاعل الإنساني؛ لا
تنفصل عنه ولا تنعزل عنه. والفنان جزء من كيانات كلية متداخلة تتضاءل دائرتها وتتقلص
حدودها كلما اقتربت الرؤية من بيئة الفنان ومن ثقافته الشعبية والتاريخية ومن
ذاكرته الفردية، وتنفرج متسعة كلما طرقت أبواب الكُل النفسي الأخلاقي الجمعي
المشترك بين البشر جميعا بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية. في هذا السياق، تتدرج الأعمال
الفنية في الدورة الـ37 للمعرض العام في خطابها التمثيلي الثقافي وتتعاقب على
مستويات تلك الدوائر الثقافية المتداخلة المتدرجة بين محلي وعالمي، تنطلق من تربة
مصرية فطرية أصيلة إلى تراث تاريخي وذاكرة وطنية ثرية تجمع بين الفرعوني والشعبي
والعربي والقومي المعاصر، وتجوب آفاق الوعي الإنساني العام بأفكاره عبر-الثقافية وسماته
النفسية المشتركة وهمومه البشرية الكبرى معبرة بذلك عن سمة النسيج الثقافي المصري
المعاصر بشخصيته الفنية الفريدة النافذة بقوة إلى موقعها الثقافي العالمي على
خريطة الثقافة الإنسانية.
تستعرض هذه
الدراسة النقدية السمات الثقافية والفنية للمشهد التشكيلي المعاصر من منظور نقدي
تحليلي يتناول الخصائص التشكيلية والثقافية التاريخية والشكلانية لمختارات من
معروضات المعرض العام التي تتمثل فيها التطورات التي طرأت على المشهد الفكري
والفني المصري المعاصر. وقد قسّمنا الدوائر الدلالية العظمى التي تقع أعمال المعرض
العام الـ37 في نطاقها إلى أربع دوائر كبرى تتداخل فيهم اتجاهات فكرية وفنية أكثر
خصوصية وأدق دلالة على ما صارت عليه الشخصية التشكيلية المصرية وقدّمته في هذه
التنويعات الفنية المترابطة والمتناغما فكريا ونفسيا: الأولى بعنوان "مصر:
الأيقونة والتراث والهوية" ونستعرض خلالها سمات الشخصية المصرية كما قدمها
الفنانون المعاصرون على مستويات تشكيلية دلالية متنوعة منها الفطرية والشعبية
والفرعونية والعربية والقومية وذلك بالنظر في أسلوب الآداء الفني والتكوينات
الرمزية والمواد والخامات والتقنيات الفنية إضافة إلى سمات الكتل والملامس في بعض
الأعمال النحتية، أما الدائرة الثانية فعنوانها "المرأة من الثُنائية إلى
الاستثنائية" وتتضمن استكشافا للمناحي الدلالية التي طرقها الفنانون في
تمثيلهم للمرأة شخصا وشخصية وكيانا نفسيا وإنسانيا بعيدا عن الثنائيات الجامدة
التي ظلت المرأة حبسيتها لقرون عدة، والدائرة الثالثة بعنوان "الوجدان الجمعي
المجرد" ونتتبع خلاله الأعمال التي تمتاز بسمات جمعية مجردة مرتبطة بالوجدان
الإنساني بصفة عامة على المستويين التاريخي والنفسي، والرابعة بعنوان "الجماليات
المركبة: التشكيل والتأويل والموضع" ونلقي فيها الضوء على ما نسميه بأعمال
"العوائق البصرية المركبة" ونتناول بالتحليل هيئتها التشكيلية
وتكوينها وتوزيع الكتل فيها وجانبها التفاعلي وأثر ذلك على عملية التلقي وعلى مستويات
الدلالة والتعبير الفني فيها، ثم نتبع ذلك بتعليق على استراتيچية تنظيم العرض وطريقة
عرض بعض الأعمال.
والملاحظ أنه
في السياق الثقافي العام لا يمكن فصل هذه الدوائر الدلالية عن بعضها فصلا تاما
ونهائيا - لا بالدلالة ولا بالهوية ولا بالرمز؛ لأنها تتقاطع بصورة أو بأخرى، بيد
أن بعض الأعمال تطغى عليها سمة معينة فتُعْلي من قدرتها الدلالية في اتجاه معين
فندرجها ضمنه إبرازا لقدراتها التعبيرية والفنية المرتبطة به. وهذا لا يعكس فقط
التنوع الثري الذي تشهده الحركة التشكيلية المصرية، ولكنه يعكس أيضا تضافر اتجاهات
ثقافية متعددة التوجهات والأفكار - تتراصّ جنبا إلى جنب في بناء ثقافي متين مكونة
النسيج المصري الثقافي الكامل المتكامل بتعدده وتنوعه المعهودين. والخطاب الثقافي
في المعرض متنوع ومتعدد الاتجاهات الفكرية والفنية، قادر بصفاته الأيديولوچية والاستاطيقية
وجوانبه الفلسفية على مخاطبة الوعي المصري القومي الخاص والوجدان الثقافي العالمي
العام: نفسا وفنا وفكرا وعاطفة وتراثا وتاريخا – لأن الثقافة القومية الجمعية جزء ينبثق
من الكل؛ يحمل نفس الروح الإنسانية والخصائص الوجدانية والطبيعة البشرية المحدودة ويشترك
في نفس الخصائص النفسية وإن كان القومي له صبغة خاصة أكثر خصوصية وأعمق دلالة
ومعنى عند أهله.
Comments