"طيور تأبى الرحيل": من أصالة
الموقع الجغرافي إلى فضاء الإبداع الإنساني
الكتاب بعنوان طيور
تأبى الرحيل: مقالات في الفن التشكيلي، أطلقه المجلس الأعلى للثقافة في مصر
نهاية 2013 متضمنا دراسات
نقدية تشكيلية عن 15 من المبدعين المصريين الذين يعيش غالبيتهم بعيدا عن العاصمة
المصرية: القاهرة، وجميعها دراسات مقالية متوسطة الطول معظمها سبق نشره في مجلة
"بورتريه" بين الأعوام 2008 و 2010، ومنها مقالين نُشر أحدهما في مجلة
"أدب ونقد" عام 2006 والآخر في جريدة "القاهرة" عام 2007،
والمقالات تدور جميعها في فلك الهوية المصرية؛ بين التأثير الذي تطبعه في ذات
الفنان التشكيلي وقلبه ووجدانه، وبين التأثر الذي يبديه الفنان في أعماله
الإبداعية فتنعكس من خلاله درجات ومستويات متعددة من الذوبان التام أو المختلِط
بين الوعي المتنامي لدى الفنان التشكيلي بموجب ثقافته وترحاله من ناحية، وسمات
بيئته الأم: جغرافيا وثقافيا وتاريخيا وفنيا من ناحية أخرى.
ويأتي ذلك الكتاب كواحد من أبرز خطوات "كمال" – بعد كتاب السنابل المضيئة (2012) إلى جانب إسهامه في كتاب دراسات نقدية 2012 وغيرهم – نحو استهداف تحليل آليات ترجمة
دقائق الشخصية المصرية والهوية التراثية في إطار الإنتاج الفني التشكيلي لفناني
الأقاليم المختلفة الذين كتب "كمال" عن أعمالهم الإبداعية مقالاته
المنشورة في هذا الكتاب، و هُـم: من الإسكندرية الفنان بكري محمد بكري، والفنان
عصمت داوستاشي، والفنانة رباب نمر، والفنان مصطفى عبدالوهاب؛ ومن كفر الشيخ (محل
ميلاد وإقامة الكاتب) الفنان السيد عبده سليم، والفنان شاكر المعداوي والفنان عبد
المنعم مطاوع؛ ومن أسيوط كل من الفنان بخيت فراج، والفنان سعد زغلول، والفنان
ممدوح الكوك؛ ومن المنوفية الفنان مصطفى بط؛ ومن الدقهلية الفنان بدوي سعفان
والفنان وفيق المنذر القاهري الميلاد؛ ومن القاهرة الفنان علي دسوقي؛ ومن طنطا
الفنان مصطفى مشعل.
والملاحظ في أسلوب كتابة تلك المقالات أنها دراسات نقدية ذات
طابع تحليلي يميل إلى مراعاة التفاصيل التاريخية والنفسية من حياة الفنان، وإلى
تفكيك العناصر الثقافية والرمزية المكونة لبنية الأعمال الفنية التي يتناولها
بالنقد لاستخلاص جوهر الفكر أو التوجه النفسي الذي انطلق منه الفنان لبناء تشكيله
الفني، ويرى "كمال" أن تلك التفاصيل التاريخية والنفسية الدقيقة في حياة
كل فنان لها عميق الأثر لأنها تشتمل على سمات مكان المولد وطبيعة المكان الجغرافية
والتاريخية فضلا عن تاريخ الزيارات التي قام بها الفنان لأماكن مختلفة والمراحل
الثقافية والعاطفية والروحية التي مر بها وما كان لها من تأثير واضح على شخصيته
الفنية فيما بعد، وهو ما يتجه بخطاب "كمال" النقدي بقوة نحو المنهج
النفسي في النقد لاهتمامه الجم بطبيعة التكوين النفسي للفنانين الذين يكتب عنهم.
...
إن
التوجُّه النظري للخطاب النقدي لدى "كمال" في هذا الكتاب ينطلق من فحص
الدقائق الثقافية المكوِّنة لوجدان كل فنان ممثلة في المقام الأول في أثر البيئة
الثقافية والنفسية على كل واحد منهم، وترتكز التقنية التحليلة في المقالات جميعها
على طريقة الفحص السيميائي التفكيكي للمكونات الشكلانية الرمزية والبصرية السردية
وإعادة تجميعها في قالب لغوي لا يقل جاذبية وأصالة عن اللوحات التي يتناولها
بالتحليل، فيظهر من ذلك أن السائد فيما بين هؤلاء الفنانين هو تشبعهم العميق
بمنابع تراثهم الشعبي والبيئي، وقدرتهم على الإفصاح عن البعد الفطري لنفوسهم
الإنسانية بطريقة فنية مائزة لكل منهم تعكس خبراتهم الشخصية ورؤيتهم للمحيط البيئي
وللعالم ككل، وفي السبيل إلى إبراز ذلك يظهر اهتمام "كمال" بالجانب
التاريخي من حياة الفنانين الذي تناول أعمالهم بالدراسة والتحليل؛ فيهتم بالتفاصيل
الحياتية وبالملامح الجغرافية والتاريخية للمكان الذي ينشأ فيه كل فنان ويظهر أثره
في أعماله الفنية.
وكما يتضح فإن الناقد ينشغل بتقصي آثار ملامح البيئة المصرية
وتاريخها في نفس كل فنان، وبالغوص في أعماق النفس البشرية للوقوف على أدق الدوافع
النفسية لاختيار التكوينات الرمزية والتشكيلات الفنية فضلا عن تناوله بالتحليل
للمنهجية الفنية الإبداعية لكل فنان على حدة من الناحية التقنية، ودراسته لمدى
قدرة كل فنان على التحكم في الخامات الفنية الوسيطة التي ينقل عبرها أفكاره
وتاريخه وحكاياته التراثية وتدويناته الملموسة والمرئية عن ملامح حضارته الأم، ومن
الملحوظ عموما على أسلوب "كمال" النقدي ميله إلى المزاوجة بين ثنائيات
متنافرة أو متناقضة يستحيل اجتماعهما إلا في سياق الفن الخارج عن المألوف، وفي هذا
يميل الناقد إلى قراءة الأعمال الفنية في سياق برزخي يقف على شعرة بين الحياة
والموت، والوعي واللاوعي، والواقع والخيال، والقرب والابتعاد، والرؤية والتلاشي
راصدا ومضة الإبداع الخفية لحظة انطلاقها كالسهم من نفس الفنان، ويصوغ هذا كله في
قالب لغوي وصفي مترابط وفي بعض الأحيان قصصي شائق تغلب عليه سمة الوصف المركز
للعناصر البيئية المتكاملة بأصواتها وألوانها وروائحها، فيخلق بذلك نصا فنيا
موازيا في قالب أدبي ممتع، ولكم في الكتاب المثال الحي.
آية مؤنس
Comments